نبذة عن الكلية:
تأسست كلية الطب بغداد سنة 1927 بإصرار ومتابعة نخبة من الأطباء الدارسين والعائدين من اسطنبول وعلى رأسهم سامي شوكت وهاشم الوتري وصائب شوكت ويعاونهم فئة من الأطباء الانجليز وعلى رأسهم هاري سندرسن . وتبؤ كرسي عمادتها أساتذة أطباء أولهم كان الأستاذ الدكتور هاري سندرسن ونجحت الكلية وتطورت ولا زالت تتطور وستبقى متطورة بأذن الله تعالى وبجهود كادرها المخلص دائما وأبدا.
عندما افتتح مبنى “الكلية الطبية الملكية العراقية ” في اليوم الرابع من شهر نيسان سنة 1930، بموقعها في العيواضية (وهي ذاتها: “العلوازية”، كما تلفظها “النخبة البغدادية” على غرار التهجئة العثمانية)، كانت “جامعة آل البيت”- الجامعة الرائدة في بلدنا، قد تم اغلاقها. وبهذة المفارقة الغريبة، فقد تم اعتبار انضمام “الكلية الطبية” الى تشكيلات جامعة آل البيت في 29 تشرين الثاني سنة 1927، تاريخاً لتأسيس الكلية، التى لطالما اعتبرت واقعة تأسيسها حدثاً فريداً واستثنائياً في اهميته، ان كان لجهة المسار التعليمي العراقي، ام لناحية الانجازات الصحية فيه.
تعود فكرة تأسيس “مدرسة” طبية عراقية الى (الجمعية الطبية البغدادية)، وهي جمعية ظهرت في 1920، اسسها خليط من الاطباء البغداديين او الساكنين فيها، من عرب واتراك وانكليز. وقد اقترحت تلك الجمعية رسمياً ضرورة وجود مدرسة طبية بالبلاد في ايلول 1921، بعيد تأسيس الدولة العراقية، وتنصيب “فيصل الاول” (1883-1933) ملكا عليها. بيد ان تلك الفكرة الرائدة لم يكتب لها التحقيق، الا بعد ان تبناها الملك المؤسس، عندما فاتح مجلس الوزراء، من خلال رئيس ديوانه “رستم حيدر” بضرورة السعي لتأسيس كلية طبية عراقية، وقد جاء في مفاتحة الاخير لمجلس الوزراء ما يلي : ” أمرني حضرة صاحب الجلالة بان اخاطب رئيس الوزراء في موضوع المدرسة الطبية، ذلك المشروع الذي له التأثير الحيوي على مستقبل البلاد، وان اذكر له رغبته في لزوم مضاعفة العناية وتهيئة الاسباب الموجبة لانشاء المدرسة الطبية..”. وفي ضوء ذلك التوجيه، فقد باشر مجلس الامة (البرلمان) بمناقشة مقترح تأسيس “مدرسة طبية عراقية” وتأمين الكلف المالية لها. ويذكر د. سعيد الفتال، في مقال ممتع عن احداث تأسيس الكلية الطبية، ويسرد بعضا عن وقائع تلك المناقشات التى جرت بالبرلمان في 4/ايار سنة 1927، التى افضت في الاخير الى قبول فكرة تأسيس “المدرسة” بالاغلبية، ورصد ميزانية لها بمقدار (72230) روبية لانشاء المدرسة. وقد صدرت الارادة الملكية بتأسيس المدرسة الطبية باسم “الكلية الطبية العراقية”، وستضاف كلمة “الملكية” لاحقا، كناية عن رعاية ملكية خاصة لها. وتم نشرها في جريدة الوقائع العراقية برقم 582 سنة 1927، كما نشر في نفس العدد تعيين الدكتور “هاري سندرسن”، عميدا لها.
كُلف المعمار “هارولد كليفورث ميسون” (1892-1960) H. C. Mason، الذي كان يشغل وظيفة “معمار الحكومة” في مديرية الاشغال العمومية (وليس “ويلسون”، كما هو شائع لدي البعض)، باعداد تصاميم الكلية اواخر سنة 1927. وقد اختار موقعا لها تابع الى الاوقاف، بجانب المستشفى الملكي، على غرار مباني الكليات الطبية الرصينة الاخرى، التى تجعل من ردهات المستشفيات القريبة “قاعات” للدرس وللنشاط العملي الذي يتعين ان يمارسه طلبة الكلية، ضمن متطلبات الدراسة طيلة سنوات تحصيلهم العلمي. كان المعمار يدرك مقدار “تواضع” المبلغ المالي المرصود للكلية، الا انه كان يعي، في الوقت ذاته، خصوصية “الحدث” المعماري النادر، الذي انيط به لتحقيقه، كـ “ثيمة” تصميمية ذات ابعاد تعليمية جديدة وغير مألوفة، ولها علاقة مباشرة بالصحة العامة، في بلد لم يعرف في تاريخه القريب (وحتى غير القريب نوعا ما!) “موضوعاً” تعليميا مماثلا له، وفي مجتمع تسود فيه انواع الشعوذة والدجل بديلا عن الوعي الصحي السليم. ولهذا فان قرار المعمار اتجه في مجمله، نحو حل (اراه عقلانيا) رغم انه مثير للدهشة والاستفهام! ذلك لان المعمار، وهو واعٍ لاهمية الموضوعة التصميمية التي بحوزته، كان مقتنعاً من ان عمارة المبنى المستقبلي، لا بد وان تكون “حدثاً” تصميميا مثيرا، تعكس بوضوح طبيعة المبنى النادرة، وتدلل على خصوصية وظيفته غير المألوفة؛ ما يسوغ نوعاً من معالجات واجهية باذخة، قادرة لأن ترتقي بتأثيراتها وبنوعية “فورماتها”، لتكون مكافئة لقيمة “الحدث” التصميمي الذي يمثله ذلك المبنى. من هنا جاء التركيز على عناصر تصميمية مصطفاة، تنطوي اشكالها على فرادة تشكيلية، غامرة بنَـفَس تجديدي، يذهب المعمار به بعيدا حد الغرابة و”التغريب”. وكل ذلك يحضر لزوم تبرير موضوعة المبنى غير العادية وفرادتها الوظيفية. بكلمات أخرى، يستعيض المعمار، هنا، عن فكرة تصميم “كلية” جامعة (لقلة الموارد المالية المرصودة لها)، والاكتفاء بخلق “واجهة” مترفة، باستطاعتها ان تدلل من خلال عناصر عمارتها الغريبة، على قيمة الحدث المشيد وعدم مألوفيته. تاركاً المعمار، بهذا القرار، امر توسيع الكلية وزيادة احيازها الجديدة للمستقبل! خصوصا وان طبيعة قاعات الدرس في الكلية تنوب عنها ردهات المستشفى القريب.
ربما لا يروق للبعض قرار المعمار المتخذ هذا. وقد يرى احدهم فيه تبذيراً وهدراً للمال على امور غير اساسية. لكني، شخصياً، اتعاطف مع قراره، مدركاً مسوغاته التى لا تخلو من جرأة تصميمية. فالمعمار واجهة معضلة Dilemma بخيارين: اما ان يرهن تصميميه الى مقدار المبلغ المرصود، ويصمم، بالتالي فضاءات باهتة معمارياً، وبالطبع شحيحة عددياً، وإما أن يذهب باتجاه تكريس خصوصية المبنى الفريد، والسعى وراء “تنطيق” تلك الخصوصية معماريا، وهو ما رُسي عليه، وفضله على الخيار الأول. صحيح انه، في النهاية، اقتصر على تشييد (مدخل) بـ “رواق معمد” Portico، لكنه “بورتيكو” ما فتئ يشير على الدوام الى حضور تلك “الواقعة الفريدة” الدالة على تأسيس كلية طبية في عراق العشرينات.
اعتمد “ميسون” على لغة تصميمية “لمبناه” (بالاحرى لمدخله!)، بعيدة كل البعد عن التقاليد البنائية المحلية، موظفا فيها (في تلك اللغة)عناصر تصميمية معروفة جدا ضمن تطبيقات الاساليب الكلاسيكية المعمارية الغربية. اتراه كان ينزع بهذا الاختيار الى تكريس “غرابة” المنشأ المصمم وتكريس فرادته وفردانيته ضمن النسيج البنائي المحيط؟ هل كان ينشد عبر “تغريبة” اللغة المعمارية المصطفاة، الى نوع من اثراء البيئة المبنية الفقيرة وقتذاك، من خلال “زرع” مفردات تصميمية جديدة وغير مألوفة؟ واياً يكن الامر، فنحن ازاء “لوحة” معمارية بعناصر تصميمية، طمح المعمار ان يكون وجودها لافتاً ومؤثراً. فاعمدة الرواق العالية نسبياً، ذات الطراز “الدوري” Doric البسيط، تحضر بقوة وبوضوح في الواجهة، وهي تشير إشارة واضحة، من خلال الاستخدام المزدوج لها، الى بوابة المدخل الرئيس، المحاط من الجانبين بنافذتين تماثلانه في الشكل والارتفاع، ومدللتين على اهميتة المركزية. يرفع المعمار من مستوى ارضية مبناه، زيادة في منح التصميم اعتباراً خاصاً، يميزه عن المباني المجاورة الآخرى. وتمنح درجات السلم القصير، الذي يوصل الى مستوى المدخل تأكيداً اضافيا لقيمة العمارة المجترحة، واكسابها منزلة رفيعة. يتعامل “ميسون” مع الطابوق، المادة الانشائية التقليدية، المستخدمة في واجهة مبناه، باسلوب خاص، يُراد به التمويه والابتعاد عن خصائصه المميزة المعروفة. فالكتلتان الاماميتان المشغولتان بالطابوق، تبدوان، وفقاً لطريقة الاستخدام، وكأنهما معمولتان بالحجر، ليتناسب هذا مع اشتراطات الواجهة الكلاسيكية وخصوصية مفرداتها. وكل ذلك يراد به اكساب المبنى صفة “المغايرة” عن ما هو مشيد بالقرب او بالمحيط، تساوقاً مع هاجس التضاد المفتون به المصمم، والتائق الى ترسيخه في المشهد باساليب شتى! ان رسالة “ميسون”، تبدو، ها هنا، واضحة جدا: الاتكاء على اللغة الكلاسيكية المعمارية، في محاولة لاظهار أهمية الحدث الوظيفي المجترح وتبيان فرادته. ولا مراء، بان مبنى الكلية الطبية، جاء في ذلك الحين ليمعن في إكساب منتج العمارة العراقية “نخبوية”، لم يكن موعوداً بها!
يبقى “مدخل” الكلية الطبية الذي امسى “ايقونة” بصرية للمبنى ككل، لا يجاريه في اهميته وحضوره اي مدخل مماثل في جميع كليات العراق! (عدا، بالطبع، “مدخل” جامعة بغداد في الجادرية المميز، لكن ذاك مدخل لمجمع جامعة وليس لمبنى كلية، ومصمم من قبل معمار عالمي مشهود له بالتجديد والريادة). انه (اي المدخل)، يبقى المكان المفضل لدى اساتذة وطلبة الكلية الطبية، ومدار فخرهم واعتزازهم. انه، في الاخير، حارس ذكرياتهم وعنوان انتمائهم لكليتهم. وليس من ثمة مصادفة، ان يكون مدخل الكلية المميز اياه، المكان الاثير للطلبة الخريجين، الذين يوثقون ذكرى تخرجهم بصور ملتقطة مع اساتذتهم امام ذلك المدخل “الايقوني” الذي صممه “ميسون”، يوما ما، في العشرينات!
و”هارولد كليفورث ميسون”، مصمم مبنى الكلية، ولد في مدينة “امبلسايد” Ambleside ، من اعمال “كمبري”، في الشمال الغربي من انكلترة، عام 1892، وبدأ نشاطه المهني تلميذاً متدرباً في مكتب والده، ثم دخل مدرسة العمارة في جامعة ليفربول، بعد ذلك انهي المدرسة البريطانية المعمارية في روما. ثم تخرج من الاكاديمية الملكية في لندن. وصادف، هناك، صديقه “جيمس موليسون ويلسون” لاول مرة. وقد حاز على جوائز تقديرية مهنية من “الريبا” RIBA وكذلك من الاكاديمية الملكية. خدم في الجيش البريطاني اثناء الحرب العالمية الاولى في الهند وفي العراق، وارتقى الى مرتبة “ميجور”. بعد ذلك اصبح مساعدا لمعمار الحكومة في مديرية الاشغال العمومية في العراق غب تأسيسها، ثم شغل هذا المنصب، بعد ويلسون الذي كون معه ثنائيا ابداعيا، قاما معا في تصميم وتنفيذ مبانٍ عراقية مهمة اعتبرها، شخصياً، بداية الحداثة المعمارية في وطننا. كما اضطلع بمفرده، بعد سفر “ويلسون” سنة 1926، في تصميم المعرض الزراعي – الصناعي في باب المعظم (1932)، و”قصر الزهور” في الحارثية (1933)، وصمم العديد من الدور السكنية للنخبة في حيَ الوزيرية الراقي. كما اشترك مع ويلسون في اعداد تصاميم “الميناء الجوي” (1931) في الكرخ (مطار المثنى حالياً)، ومطار البصرة الدولي (1938)، والمحطة العالمية للسكك الحديدية بالكرخ” (1947-1952). ومحطة قطار الموصل (1938)؛ وغير ذلك من المباني المهمة. انضم، بعد مغادرته العراق سنة 1933، الى المكتب الذي اسسه ويلسون، كشريك، واصبح يعرف منذ الخمسينات بـ “مكتب ولسون وميسون وشركائهم”. توفي في لندن سنة 1960.